آخر

خواطر سدراوي: الإيمان والإلحاد و الجدل الأبدي 

الدكتور عزيز سدراوي 

قال الله تعالى في سورة الزمر: { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب }

 

‏صديق لي على التويتر يقول: ما رأيك بريتشارد دوكينز وما يقوله؟

 

‏قلت: لا اعرفه و الحقيقة لم أكن أعرفه، لكن سمعت ردود عدنان ابراهيم عليه في سلسلة مطرقة البرهان وزجاج الإلحاد، فقلت لماذا لا اتعرف عليه و ذلك بالتعرف على رؤيته، فقرأت أجزاء من كتابه:

“وهم الإله”

The God Delusion.

Pour finir avec dieu.

وحيث أنني أقرأ أولا بانطباعي و حكمي الخاص فلم أتكلف بمناقشة تلك الانطباعات او الأحكام لأنها ليست حقائق علمية بعد.

و كان من الواجب قرائة النسخة الفرنسية و العودة الى النسخة الانجليزية حتى أتأكد من المعنى قبل الالتجاء الى النسخة العربية.

ريتشارد دوكينز (بالإنجليزية: Richard Dawkins)‏ (ولد في 26 مارس 1941 في نيروبي)، هو عالم أحياء بريطاني ومروج ومنظر تطوري وعالم أخلاق، وعضو في الجمعية الملكية البريطانية. يعد ريتشارد دوكينز، الأستاذ الفخري في الكلية الجديدة بجامعة أكسفورد، أحد أشهر الأكاديميين في بريطانيا.

 

 

‏أولا : دوكينز هو عالم أحياء جيد لكنه مع ذلك يخطئ كثيرا في الربط بين العلم والدين، وقد اطلعت على مقتطفات من ردود الفيلسوفة الإنجليزية عليه “ماري ميدغلي” والبروفيسور الإنجليزي وعالم الأعصاب “ستيفن روز” في رده على كتاب “le gêne égoïste-الجين الأناني” وفهمت أن ثمة مناهج تفكير (نفسية) تتحكم في دوكنز وأحيانا في خصومه.

 

‏دائما اقول و خلال مناقشاتي مع بعض اصدقائي، غالبا بعد وجبة غداء يوم الجمعة، أن معظم خلافات البشر تكون نفسية وليست عقلية، وفي ذلك يقول البروفيسور “بول فيتز” عالم النفس الأمريكي في جامعة نيويورك خلال محاضرة له على يوتيوب بعنوان “سيكولوجيا الإلحاد” أن أسباب الملحدين غالبا في ترك الأديان هي نفسية وليست عقلية.

 

‏ثانيا: لا يجب الاكثار في التعليق على الإلحاد لأن ملحدي هذا العصر سواء عرب وأجانب هم مسالمين ويعملون في معظمهم بجوانب علمية وخيرية، وبالتالي فالتفرغ للرد عليهم سيكون من ناحية عزلة عن الواقع الإرهابي والخطر الأصولي و من ناحية اخرى سيكون تصفية حسابات شخصية وأيدلوجية لا صلة لها بالواقع، فتأثير دوكينز مهما بلغ شدته لن يكون كتأثير خطيب مسجد مثلا.

 

‏ثالثا: عيب دوكينز الأكبر أنه يتصدى لمسائل فلسفية وهو ليس فيلسوفا بل لا يفهم في الفلسفة على ما يبدو، هو لديه توجه علمي اجتماعي. فهو إذن أقرب ما يكون لعالم اجتماع وأحياء.لا فيلسوف نظري أو تجريبي، ومن نقطة الضعف هذه شهّرت به “ماري ميدغلي” التي عرفت بخصومتها للعلمانيين أي الذين يختزلون الحقيقة المطلقة في العلم دون الاهتمام بالربط بين العلوم أو تغيرها او حسب صيرورتها .

 

‏رابعا: قرأت أجزاء من كتاب وهم الإله وجدت الرجل ينتقد سلوكيات مؤمنين ثم يستنتج بذكاءه الخارق أنه لا يوجد إلاه. ولا أعلم كيف استدل بهذه الطريقة. فالمفترض به حسب المنهج العلمي أن يحاكم و يحاكي او حتى ان يقارن الأسس والثوابت التي اصطلح عليها كل المتدينين و جعلوا منها دلائلهم وليس فقط أجزاء منها كما يفعل الفقهاء والكهنة في الرد على أنفسهم،

 

‏خامسا: ما فعله دوكينز في وهم الإله هو التخلي عن الايمان، ومع ذلك لم و لن يقنعنا ابدا ان نتخلى عن الإيمان، لأن لوازم التخلي عن الإيمان وأدلته ومتطلباته أظنها غير متوفرة سوى في عدد قليل جدا ألحد بناءً على قناعة فلسفية دقيقة ومناقشة لكل تفاصيل الإيمان دون اختزال. مع العلم أنه لا يوجد مشاهير ملحدين ألحدوا بهذه الطريقة، بل أكثرهم كان لهم موقفا نفسيا من الدين وأشهرهم نيتشة بل و اهمهم.

 

‏سادسا: النقطة التي يبرر بها دوكينز موقفه في مناقشة وهم الإله بطريقة اجتماعية لا فلسفية علمية أنه يستشعر خطر الدين على المجتمع، وهذا موقف إقصائي لم يحدد نوعية الخطر الذي يشكله رجل متدين بسيط يرى أن الله أمره بعدم الكذب والقتل والسرقة والظلم، وبرنامج حياته من البيت للشركة والعكس، وهذا يعني أن دوكينز إما قصد جماعة مؤمنين بعينها فبالغ بتعميمه وإما له موقف نفسي من الدين كما رأى ذلك الدكتور “بول فيتز”

 

‏سابعا: الشئ الجيد في دوكينز أنه لا يشوه الحقائق الاجتماعية لبعض المتدينين هو عرض مشكلتهم وقصورهم وغبائهم بطريقة صحيحة، لكنه أخطأ في الاستدلال بها على نفي الإله، لأن الفلسفة تجبره على مناقشة معنى الله والوجود وتحريرهم فلسفيا على النحو الذي كان عليه ديكارت، وكانط مثلا. لكنه أضعف منهم بكثير وقدراته الذهنية في الفلسفة فقيرة.

 

‏ثامنا: من متابعة سريعة لحساب دوكينز على تويتر يظهر أن ذكاءه المحدود ظهر هناك، إنه نسخة من اشخاص كثر، فهو كثير الأحكام والتعميمات دون نقاش التفاصيل المهمة والاهتمام بإثبات صحة الاستنتاج، وبرأيي أن حساب تويتر كان يجب أن يدخره لنشر ثقافة السلام والمحبة أكثر أو يعرض رأيه لكن بتغريدات مسلسلة كي لا يخطئ متابعيه في الفهم، فالرجل حرفيا ينشئ جيل من الملحدين بلهاء ولا يعرفون كيفية الاستدلال ويقعون في أخطاء منطقية مشهورة.

 

‏تاسعا: كي لا أقع في الغلط أود ان اوضح أن هذا المقال ليس ردا مفصلا على دوكينز أو إسقاطا له كعالم أحياء تطوري، لكنه عرض أولي كمدخل نفهم به دوافع الرجل واللمحة العامة لكتاباته، ومن يشأ التأكد فليفتح كتاب “وهم الإله” تجد الرجل ينتهج أسلوب القصاصين في سرد الحكايات والأمثلة للاستدلال بها على نتيجته المسبقة، وهو خطأ فاحش بالاستدلال ذكرته في النقطة الرابعة، ولأن المنهج العلمي يتطلب الرد على كل أو معظم حججه أو محاور أفكاره..وأظن أن أفضل من قام بذلك هو عدنان ابراهيم في موسوعته متعددة الحلقات، فحقيقة رغم خلافي مع

د عدنان في أمور كثيرة لكن هذه السلسلة كانت في معظمها قوية علميا وموضوعية إلى حد بعيد كان فيها الباحث أكثر أمانة.

 

‏عاشرا وأخيرا: رأيته يحقر من شأن الإدراك عن طريق إثبات وهم الحس. وهذا عجيب، فالإدراك الذي أدرك خطأ الحواس هو يعمل بطريقة صحيحة فكيف يكون موهوما

وأظن أن هذا الخطأ نتيجة لضعف الرجل الفلسفي، فوهم الإدراك كما سماه سيوهم كل شئ بعده حتى اكتشاف خطأ الحواس.

 

‏إن التعصب ضد الأديان والمعتقدات جميعها يساوي التعصب ضد الإلحاد واللادينية، فمحاولات القضاء على أي منهم ستبوء بالفشل، فكما أن هناك ملحدين خدموا البشرية والعلم هناك مؤمنين أكثر خدموا البشرية والعلم، وما نحتاجه هو الخروج من هذا الإطار النظري لعالم أكثر منفعة وأسئلة صحيحة يترتب عليها نتائج اجتماعية أكثر واقعية من هذا الجدل الساذج الذي أكل من تاريخ وجهد الناس أجيالا، فالإنسان لن يتخلى عن الدين كما أنه لن يتخلى عن الشك فيه، وهكذا تستمر دورة الحياة، وعلى المعترضين أن يقدموا أوراقهم لمحكمة التاريخ التي ثبت فيها أن جدل الإيمان والإلحاد لم ينتهي منذ آلاف السنين، ولن يتوقف مهما وصل الإنسان من علم، والأولى أن نقبل أنفسنا كما نحن أو كما نريد…

اترك تعليقاً

مقالات ذات صلة

لا يمكنك نسخ هذا المحتوى

إغلاق